رسائل الحب الإلهي في تجارب الاقتراب من الموت
الصفحة الرئيسية تجارب حديثـــــة مشاركة تجربــــة



رسائل الحب الإلهي في تجارب الاقتراب من الموت

في عصرنا الحديث اصطدم العلماء بظواهر لا يزال حدوثها يتكرر بشكل لا يستطيعون إنكاره، كظاهرة الاقتراب من الموت، أو رؤى أسرة الموت والخروج من الجسد حيث كانت وحدات الإنعاش المركز وغرف العمليات ساحاتها، فقد أظهرت حالات الإنعاش من أكثر السكتات القلبية خطورة العديد من التجارب غير الاعتيادية رغم أنها لم تكن السبب الوحيد لحدوث مثل هذه التجارب. بقيت هذه التجارب مجهولة حتى سنة ١٩٧٥، حتى قام الطبيب ريموند موديRaymond Moody بنشر كتابه الذي حقق أعلى معدلات بيع في أميركا آنذاك (حياة ما بعد الحياة Life After Life). لقد تحدث إلى الكثير من الناس الذين عادوا من الموت، وجمع تجاربهم كتجارب اقتراب من الموت.

لم يصدق الكثير من العلماء ما ورد في كتاب مودي، مفترضين أن مودي يبالغ في المسألة على أية حال، لكن مودي واجههم قائلاً، أنه ليس هناك من أحد قد لاحظ هذا النوع من التجارب لأن المرضى كانوا يخشون الحديث عنها).

بعد ذلك تم البت في هذه المسألة في دراسة أوسع حين قام أخصائي بالأمراض القلبية (سكونميكر Schoonmaker) عام ١٩٧٩ بمقابلة أكثر من ألفي مريض خلال فترة دامت عشرين سنة، ليقول لنا بعد ذلك أن نصف هؤلاء أفادوا بحدوث هذه التجارب لهم. وفي عام ١٩٨٢ أظهرت الدراسة الإحصائية التي قام بها (جورج كالوب George Gallup) أن كل شخص في أميركا من بين سبعة أشخاص بالغين قد اقترب من الموت. لقد أثبتت هذه الدراسات في النهاية صحة ادعاءات دكتور مودي.

ورغم أنهم لم يحصلوا لحد الآن على الكثير من المعلومات عن عالم ما بعد الموت، لكنهم تأكدوا من حقيقة استمرارية الوعي الإنساني بعد الموت ومغادرة الجسد المادي.

وقدمت لنا البحوث العلمية في هذه التجارب وتجارب الخروج من الجسد وظاهرة رؤى الموت السريري واتصالات الموتى بالأحياء أدلة قاطعة على وجود حياة ما بعد الموت وإمكانية استمرار وجود الوعي من دون الحاجة إلى الجسد الطبيعي، وهي حقيقة أساس في جميع الأديان السماوية، فأخذت مسألة التفكر أو الإيمان بوجود مثل هذه الحياة تأخذ طابع الجد وبدأ الإنسان يفكر في كيفية ضمان مستقبله الأخروي ويعطيه من الأهمية مثلما يعطي مستقبله الدنيوي، فعلى سبيل المثال لا الحصر "فإن العديد من الإحصائيات التي أظهرت أن أغلب الشعب الأميركي بغض النظر عن أعمارهم ومستوياتهم العلمية يؤمنون بحياة ما بعد الموت" [١]

يقول الدكتور كارل أوسز Karil Osis في مقال له (حياة بعد الموت Life after Death):

"في عصر العلم هذا، لا يزال الموت لغزًا محيرًا يجعلنا دائمًا نغير من أنظمة أفكارنا، فدانتي (Dante) الذي كان من أشهر عباقرة زمانه، يشرح لنا معتقداته في أحد كتبه قائلاً: "أنا أقول بأن الحمقى وأكثر الناس تفاهة من لا يؤمنون بوجود حياة بعد هذه الحياة."

والحقيقة أن استمرارية الوجود وعدم الفناء والتعلق بالخلود هو أمر جبلت عليه النفس وليس لها قناعة بحال غير الخلود كيف لا و"إذا كان حب الدوام فائضًا من الإله على كل شيء" [٢]، وما هو ثابت عندنا من تلازم العقل والمجرد، فكل مجرد عاقل وكل عاقل مجرد. إن أدلة التجرد كلها منتجة بأن النفس جوهر وليست بجسم، ولا جزءًا من جسم، ولا عرضًا، فهي لا تفسد، بل باقية ببقائها الأبدي كما في الحديث الشريف (خلقتم للبقاء لا للفناء) فالنفس إذا أدركت بقاءها الأبدي تطلب كمالها الذي هو سعادتها فيطلب ما يوصلها إليه فيترتب على معرفتها سائر المعارف الحقة، فتدبر." [٣]

أيضًا لا يمكننا أن نغفل ما يحدث في بعض التجارب من معرفة روحية إشراقية، يحدث فيها نوع من التسامي لعقل الإنسان ويدرك بها حقائق كونية وعلمية ما كان ليدركها في الظروف الطبيعية، حيث يكون فيها العقل حبيس العادات العقلية الروتينية.

"إن الرؤيا الصوفية لطبيعة الكون تعطينا على ما يبدو، في النهاية الأساس الأفضل لفهم تجارب الاقتراب من الموت، ومع ذلك فإنه من المقبول، بشكل عام، عند أولئك الذين يشاركون وجهة النظر هذه، أنه ستمضي فترة من الزمن قبل أن يبدأ الناس في الشعور بالارتياح في واقع مرتب ترتيبًا مختلفًا عن عالم المظاهر، وفي التحليل النهائي، فإن العلم، على ما يبدو، يقترب من -على الأقل لا يتعارض مع- ما أكده الصوفيون خلال آلاف السنين، عندما ذكروا أن الوصول إلى الحقيقة الروحية لا يمكن أن يصبح ممكنًا إلا عندما يتحرر الوعي من اعتماده على الجسد، فطالما بقيت النفس موثوقة بالجسد وبإدراكا ته الحواسية، فإن الحقيقة الروحية لن تكون، في أفضل حالاتها، أكثر من مجرد بناء فكري، لأنه عندما يصل المرء إلى عالم ما وراء الموت، فقط يستطيع أن يشهدها بشكل مباشر." [٤].

وقد رأينا كيف أن الكثير مما جاء به الباحثون أصحاب المنطق العلمي والعلماء الروحانيين بعد أن بذلوا جهودًا مضنية وأمضوا سنين طويلة من البحث والتقصي، هو مطابق لما جاء به فلاسفتنا من أهل الكشف والإشراق ولا يزال الكثير من كلامهم بحاجة إلى التأمل والدراسة.

أما المعرفة التي حصلت لأصحاب هذه التجارب، فنجد أن معظمهم يقول لنا، بعد أن حصل له الانعتاق من وثاق الجسد، بأنه قد أدرك أسرارًا من المعرفة وعرف العلة من الخلق ومعنى الارتباط بالمطلق، أو كما في تجربة الكاهن (رودونيا Rev. Ceorge Rodonaia) حينما يتعرف إلى حقيقة الله تعالى من خلال التجربة، ليكتشف أن الله فوق إدراكاتنا وأبعد من تصورات الكثيرين وأبعد من قدرتنا على الفهم، وهو غير الإله الذي تصوره المسيحية واليهودية وكذلك الهندوسية..

وكانت أهم الرسائل التي وردتنا من العالم الآخر، هي رسالة المحبة وأن المحبة هي مفتاح كل شيء، فنجد في تجربة رانيللي والاس RaNelle Wallace هذه الرسالة: "بعد ذلك قالت لي جدتي: كل هذا هو من عطاء الله، وكل تلك القوى هي من عنده، إنها قوة حبه. فكما أن حياة النباتات على الأرض تحتاج إلى التربة والضوء وإلى الماء لأجل أن تتغذى، كذلك تحتاج الحياة الروحية إلى محبة الله، إن كل المخلوقات انبثقت عن محبة الله، وكل شيء خلقه منحه القدرة على تبادل المحبة معه، فالنور والمحبة والحقيقة، خلقت بسبب ذلك الحب، لقد منحها الله الحياة، ومنحناها نحن الحب كما منحتيها أنت."

إن قولها "إن كل المخلوقات انبثقت عن محبة الله" يتفق تمامًا مع مفهوم الحركة الحبية، التي هي سبب وجود العالم، كما يشرحها الشيخ الأكبر في الفص الموسوي من فصوص الحكم:

"إن الحركة إنما هي حبية ويحجب الناظر فيها بأسباب أخرى وليست تلك وذلك لأن الأصل حركة العالم من العدم الذي كان ساكنًا فيه إلى الوجود ولذلك يقال أن الأمر حركة عن سكون فكانت الحركة التي هي وجود العالم هي حركة الحب وقد نبه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على ذلك بقوله عن ربه في حديث قدسي:

"كنت كنزًا مخفيًا لم أعرف فأحببت أن أعرف". فلولا هذه المحبة، ما ظهر العالم في عينه، فحركته من العدم إلى الوجود حركة حب الموجد لذلك، ولأن العالم أيضًا يحب شهود نفسه وجودًا كما شهدها ثبوتًا، فكانت بكل وجه حركته من العدم الثبوتي إلى الوجود العيني حركة حب من جانب الحق وجانبه فإن الكمال محبوب لذاته." [٥]

وتصف لنا رانيللي شعورها بحب الله الكبير لمخلوقاته "كنت أشعر أن الله يرى كل واحد منا على حدة ويبصر ما في قلوبنا، وشعرت بفيض حبه الكبير.

وكانت الرسالة الأخيرة التي تفوهت بها الجدة أن عليك إخبار كل شخص، أن المفتاح هو المحبة، المفتاح هو المحبة، المفتاح هو المحبة"

وكما قال الدكتور كين رنك Ken Ring: "في الواقع فإن النور يعطينا إجابة عملية جدًا عن الحب، على الأخص الحب اللامشروط.

فمثل هذا الحب يمكنه أن يجعل العالم، مكانًا أفضل للعيش، رغم أنه لا ينهي معاناتنا ولكنه سيساعدنا بصورة كبيرة في حل المشاكل التي نعيشها"

إن الرسائل الآتية من العالم الآخر، المؤكدة على أهمية المحبة حب الإنسان لخالقه، وحبه لأخيه الإنسان، أمر يتكرر في معظم هذه التجارب، وهي إنباء لنا بأن ما ينتظرنا من محبة الله ورحمته في العالم الآخر أشد وأعظم، لكن من لم يكن له نصيب منه في هذه الدنيا، لن يحظى بشيء منه هناك، لأن قلبه لم يعرف الحب من قبل، ولم يذق لذة التضحية والإيثار.

إن جميع الديانات السماوية تدعو إلى المحبة، محبة الإنسان لربه ولأخيه الإنسان ومحبة الوجود من حوله وعن الإمام الصادق (رضي الله عنه): هل الدين إلا الحب؟ إن الله يقول: (قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ الله) (آل عمران: من الآية، ٣١) وقال (يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم) (الحشر)، "وهل الدين إلا الحب؟"

إن السر في مثل هذا التأكيد على المحبة، هو إحدى طرائق السلوك إلى الله تعالى، وهي العلاقة المتبادلة بين المؤمن وربه، التي من ثمارها المغفرة والرحمة من الله (قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبكُمُ اللهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: ٣١)، ويحصل للمؤمن عشق وتعلق بربه، يحب به الوجود من حوله لله، بل إن الأمر ليصل أن يحب المؤمن نفسه لله لا لنفسه هو، إذ هي مطيته الموصلة إلى المحبوب (قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبكُمُ اللهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: ٣١)،

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ) من غيره لأنهم لا يحبون إلا الله، ولا يختلط حبهم له بحب غيره ولا يتغير ويحبون الأشياء بمحبة الله ولله، وبقدر ما يجدون فيها من الجهة الإلهية كما قال بعضهم : "الحق حبيبنا، والخلق حبيبنا وإذا اختلفا فالحق أحب إلينا." [٦]، إذ كل محبة نبتت في القلب لغير وجه الله، لا دوام لها ولا ثمر، ولربما أصبحت وبالاً على أهلها ومانعًا من الأخذ بأسباب القرب من الله تعالى وحاجزًا عن الكمال، فكل شيء هالك إلا وجهه، ونقيضه المحبة لله وفي الله، فلها دوام البقاء وهي التي تفتح لصاحبها أسبابًا للقرب والترقي، فيقطف ثمارها في الدارين.. "وقت رؤيتهم العذاب وهو وقت تبريء المتبوعين من التابعين مع لزوم كل منهما الآخر بمقتضى المحبة التي كانت بينهم لتعذب كل منهما بالآخر وتقيده واحتجابه به عن كمالاته ولذاته وتقيده وانقطاع الأسباب والوصل الموجبة للفوائد والتمتعات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابة، الرحم، الألفة، العهد، وسائر الموصلات الدنيوية الجالبة للنفع واللذة، فإنها تنقطع كلها بانقطاع لوازمها وموجباتها دون الموصلات الخيرية والمحبات الإلهية المبنية على المناسبة الروحية والتعارف الأزلي، فإنها تبقى ببقاء الروح أبدًا وتزيد في الآخرة بعد رفع الحجب البدنية لاقتضائها محبة الله المفيدة في الآخرة، كما قال تعالى: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ" [٧]

وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "المرء يحشر مع من أحب حتى لو أحب أحدكم حجرًا حشر معه".

وقال (رضي الله عنه) في موضع آخر، يذكر فيه أن الرابطة التي ستدوم في عالم الآخرة هي رابطة المحبة في الله تعالى والعلاقات الروحية المنقاة من كل ما يشوب، لا رابطة النسب وأنواع العلائق الدنيوية الأخرى:

"إن الوصل الطبيعية والاتصالات الصورية غير معتبرة في الأمور الأخروية بل المحبة الحقيقية والاتصالات الروحانية هي المؤثرة فحسب، والوصل الصورية التي تنشأ بحسب اللحمة الطبيعية، الخلطة والمعاشرة لا يبقى لها أثر فيما بعد الموت." [٨]

كما عرفتنا، هذه التجارب بأناس، كانوا من غير المؤمنين أو ليس لهم أدنى اهتمام بالدين، تحولوا بعد تعرضهم لمثل هذه التجارب إلى أناس متدينين ومن الطراز الأول في إخلاصهم وسعيهم للوصول إلى الحقيقة، بعد أن تغيرت معاني الأشياء بالنسبة إليهم، فحققوا طموحات لم يكونوا يحلمون بها في يوم من الأيام، وأصبح الاستعداد للموت وانتظاره من المسائل المفرحة في حياتهم لا المحزنة بخلاف ما جبلت عليه النفس من كراهية للموت.


للمناقشة والاستفسار يرجى الاتصال على البريد الإلكتروني: qutaibasalih@yahoo.com

مراجعة وتدقيق: أحمد حسن، السودان.

[١] حياة بعد الموت دكتور كارل أوسز.

[٢] الشفاء، ط١، ج١، ص٢٩٤.

[٣] سرح العيون، ٧٨ ص٤.

[٤] مارغوت كري، مؤسسة الاتحاد العالمي لدراسات الاقتراب من الموت في بريطانيا.

[٥] شرح فصوص الحكم للقيصري، ط١، ص٤٥٦.

[٦] تفسير ابن عربي، ص٨٥، ج١، ط١، دار الكتب العلمية، بيروت.

[٧] المصدر السابق، ص٨٥، ج١، ط١، دار الكتب العلمية، بيروت.

[٨] المصدر السابق، ص٣٣٤، ج٢.