مسألة الحياة بعد الموت
الصفحة الرئيسية تجارب حديثـــــة مشاركة تجربــــة



قتيبة صالح فنجان

مسألة الحياة بعد الموت

ترجمة: قتيبة صالح فنجان qutaibasalih@yahoo.com

مسألة الحياة بعد الموت: [١]

ناقش أستاذ الفلسفة البروفسور الأميركي بيتر كريفت مسألة إثبات الحياة بعد الموت بطريقة علمية وفلسفية مبسطة، يدعوا فيها إلى عدم إخضاع الظواهر الروحية إلى التحليل العلمي، لأن الروح غير خاضعة لقوانين العلم، ولا يمكن إدراكها وفهمها إلا عن طريق الأيمان. والحقيقة أن مقالة البروفسور كريفت هي المحصلة النهائية التي سنخرج بها من دراستنا لتجارب الاقتراب من الموت، فالظواهر الروحية، تبقى عصية على قوانين العلم والطبيعة وتمثل التحدي الأكبر الذي يذكر الإنسان بعجزه عن إدراك كنهها، وتحذره من الغرور والمكابرة، بل تدعوه إلى التواضع والإخلاص في سيره إلى الله تعالى، واضعًا نصب عينيه، قوله تعالى (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).

تتجلى لنا في هذا المقال حقيقة أخرى، ألا وهي أن التفكير السليم القائم على الأسس العقلية والمنطقية، يصل إلى نفس النتائج المنطقية رغم اختلاف الديانات والمذاهب والأعراق، فقد أودع الله في عقل الإنسان وفطرته، ما يدله عليه ويوصله إليه، فالعقل هو الحجة الباطنة على الإنسان كما أن رسل الله تعالى حججه الظاهرة عليه.

المقال:

هل يتسنى لنا البرهنة على عالم ما بعد الموت؟

تواجهنا خمس أسئلة مختلفة كلما ناقشنا هذه المسألة.

١. هل يوجد هنالك عالم ما بعد الموت؟ ليس هناك من إجابة وسطى فإما أن يوجد أو لا يوجد.

٢. إذا كان لمثل هذا العالم وجود، هل يمكننا معرفته، وهل يمكننا الإيمان بوجود شيء دون رؤيته؟

٣. إذا علمنا بوجود مثل هذا العالم، هل يمكننا التأكد من مثل هذه المعرفة؟ فربما تكون معلوماتنا صحيحة ولكن غير مؤكدة.

٤. إذا ما كانت هناك معرفة أكيدة، فهل توجد هناك أدلة منطقية تعطينا الحق كي نكون متأكدين بهذا الشكل، كما أننا على يقين من وجودنا ومن المسلمة القائلة بأن النقيضين لا يجتمعان؟

٥. إذا سلمنا بوجود مثل هذه البراهين المنطقية هل تعتبر برهانًا علميًا على ضوء معطيات العلم الحديث؟

نعم فمن الشائع وجود براهين منطقية أو أدلة مأخوذة من التجارب الحاصلة، كما يمكن وجود أنواع أخرى من الأدلة المقبولة إلى جانب الأدلة العلمية.

تعتبر هذه الأسئلة الخمسة مهمة إذا ما تساءلنا عن إمكانية وجود الحياة الآخرة. إني أعتقد بأن الأمر يعتمد على نوعية الدليل الذي يمكنك تقبله، فنحن لا نستطيع إثبات هذه المسألة كما هو الحال في النظريات الهندسية لإقليدس، كما لا يمكننا مراقبتها خلال المجهر كالفيروسات. كذلك لا يمكننا إثباتها أو عدم إثباتها معتمدين على تجارب الاقتراب من الموت على وجه العموم، لأن جميع هذه التجارب قد حدثت قبل الموت لا بعده.

يعوزنا الكثير للإيمان بوجود عالم ما بعد الموت، ما لم تكن هناك أدلة علمية، لكن مثل هذا الإيمان يصبح ممكنًا، إذا افترضنا إمكانية الإيمان دون الحاجة إلى دليل علمي، غير أن مثل هذا الافتراض ينقض نفسه ويصبح غير مقبول.

أيضًا لا يمكننا البرهنة على أن الأدلة العلمية هي الأدلة الوحيدة التي تكون مقبولة، وكذلك لا نستطيع أن نثبت أن الأدلة المنطقية والتجارب التي حصلت لكثير من الناس هي الأدلة المقبولة فقط.

إن الأمر لا يقوم على هذا ولا على ذاك بل هو يعتمد في الدرجة الأولى على الإيمان والعقائد الدينية، فالسبب الذي يحملنا على الاعتقاد بالحياة الآخرة، ببساطة هو عدم وجود سبب يضطرنا لعدم الإيمان بها، كما لا يوجد اعتراض على وجود مثل هذه الحياة لا يمكننا الإجابة عليه.

إن أهم الاعتراضات التي تظهر حال مناقشة مثل هذه المسألة هما اثنان:

الأول: طالما أنه لا يوجد هناك دليل قاطع على وجود الحياة بعد الموت، فإنه من غير المقبول إيماننا بها، كما يكون من غير المقبول أن نؤمن بنظرية الكون السالب، التي يصعب إثباتها، إن لم تكن مستحيلة، إلا أن رغبتنا في الاعتقاد بوجودها رغم عدم حضور الدليل، كاف لجعلنا نؤمن بوجودها.

وهنا.. إما أن يكون صاحب هذا الاعتراض قد عنى بكلمة الدليل مجرد الدليل القائم على التجارب أو أنواع أخرى من الدليل.

فإذا كان يعني الأنواع الأخرى، فمعنى ذلك أنه يتجاهل جميع الأدلة التي سنوردها، والتي تدل على وجود مثل تلك الحياة. أما إذا كان يعني بكلمة الدليل ذلك الدليل التجريبي فسيكون لدينا الكثير من الأدلة.

إن أكثر الاعتراضات العلمية افتراضًا هو الإصرار على الدليل العلمي، حيث يكون الإيمان بعالم الآخرة أمرًا غير مقنع دون وجود مثل هذا الدليل. إن مثل هذا الاعتراض يشبه الجدل حول وجود الخالق بيننا على الأرض، كما لو كنا نقول إننا لم نجده في زجاجة الاختبار، أو كما قال رواد الفضاء الأوائل من الاتحاد السوفيتي سابقًا، إننا ذهبنا إلى الفضاء الخارجي لكننا لم نجد الله.

إن مثل هذا القول يريد أن يجعل الله كما لو كان شيئًا كيميائيًا أو نيزكًا فضائيًا، فالرحلة بالتاكسي عبر أراضي (كليفلاند)، لا يمكنها إثبات وجود كويكبات (الكويزارز) في الفضاء، كذلك لا يمكن للتجارب المختبرية نفي وجود الخالق، أو نفي وجود الروح وخلودها، عن طريق تحليل الدماغ كيميائيًا.

إن صاحب هذا الاعتراض يناقض نفسه، فاعتقادنا بوجود بعض الأشياء خارج النظام لا يمكننا نفيها اعتمادًا على مراقبتنا لحركة ذلك النظام، كما لا يمكن للسمكة الذهبية نفي وجود مالكها الآدمي خلال مراقبة الماء داخل الوعاء.

الثاني: إن الاعتراض الأقوى على وجود عالم الآخرة ومحاولة دراسة الروح على أنها شيء مادي. [٢] نحن نعرف أنه لا توجد حياة فكرية في الدماغ بعد موته فانفجار الدماغ يتلف الأفكار، لأن الوعي يبدو مرتبطًا بالمادة مثلما يرتبط الضوء بالقنديل، فحالما ينفد الزيت ينطفئ الضوء. إن الجسم وجهازه العصبي يشبه القنديل والوعي هو الضوء.. النشاط اللامادي، وبعبارة أخرى يكون الوعي ظاهرة وليس سببًا كالحرارة المتولدة في السلك المربوط بجهاز نتيجة التيار الكهربائي، أو يشبه الدخان الذي تطلقه ماسورة السحب في المحركات. إننا نراقب المظاهر المادية للوعي فقط، مثل صفة الكلام التي تنتهي بموت الجسد، فنحن لم نر الروح تنتهي من الوجود، لأننا لم نر الروح على الإطلاق.. فقط رأينا استظهاراتها على الجسد ولا يمكننا أيضًا الجزم بأن الجسد هو آلة الروح المستقلة عنه والتي تستمر في الوجود بعد موته، أو إذا ما كان الجسد هو سبب وجود الروح المعتمدة عليه، والتي تموت بموت الجسد. كل تلك الأمور افتراضات لدراسة هذه الحقائق، فعندما يشل الجسد، يبقى العقل والإرادة يعملان رغم حرمانهما من التعبير، والموت ببساطة عبارة عن شلل تام.

إن اعتماد الروح على الجسد، يشبه نوعًا ما حاجة السفينة إلى الأحواض الجافة لبناء السفن، وبتعبير أكثر دقة، فإن الجسم هو الرحم الذي توجد فيه الروح، لتنبثق منه عند الموت [٣].

وإذا رجعنا إلى التشبيه الأول، حيث قلنا أن الروح هي ضوء القنديل وعند انطفاء النار لا يعني انتهاءها من الوجود، بل سيبقى ضوؤها يتنقل عبر الفضاء ويمكن رؤيته من كواكب أخرى إذا ما تسنى لنا ذلك. فلقد انطلق هذا الضوء كما انطلق الطفل ليلعب.. لقد تحرر.

هنا نتساءل، ما الذي يحتاجه الدماغ لكي يفكر؟

وقد لا يكون الدماغ هو المسبب لعملية التفكير، بل ربما يكون صمام التحكم والعضو المنظم للتفكير [٤]، كما افترض ذلك (برجسون Bergson وهكسلي Huxley)، من أن الدماغ هو عضو النسيان أكثر من كونه عضو التذكر والذي يزيل من الوعي كل ما لا يخدمه لأغراضه الآنية، وعند موته تغلق هذه البوابة التي تدخل من خلالها المعلومات. وهذا ما يعلل لنا الحقيقة الشائعة، من أن الناس المحتضرون يتذكرون جميع تفاصيل حياتهم الماضية بوضوح شديد ودقة متناهية. [٥]

إن الأدلة وبضمنها الأدلة الظرفية تتلاءم مع فكرة خلود الروح كما هي ملائمة للفكرة المناقضة، عدم خلود الروح.

هنا نتفهم أن تجارب الاقتراب من الموت، تكون مناسبة على الأقل كدليل على خلود الروح، لقد أخبرنا السيد المسيح (عليه السلام) بأن الإيمان بالحياة الآخرة هو جوهر رسالته.

إن أبسط الحجج وأكثرها وضوحًا، والتي ربما سأدعوها بحجة الإنسان البدائي.

كان الإنسان الأول يملك بقرتين، وعندما ماتت إحداهما وبقيت الأخرى حية، أخذ يتساءل: ما الفرق بين البقرة الحية وبين تلك الميتة؟

لقد نظر ذلك الإنسان وكان على درجة من الذكاء تمكنه ليميز أنه لا يوجد بينهما فرقًا ماديًا لا في الشكل ولا في الوزن ساعة موت الأخرى.. لحد الآن لا يوجد فرق كبير لكن هنالك شيء ما مفقود.. فما هو؟ الجواب هو الحياة.. ولكن ما هي الحياة؟

لقد كان جواب هذا السؤال واضحًا لذلك الإنسان، لأن عقله لم يزدحم بعد بالنظريات، فالحياة هي من جعلت البقرة تتنفس (إن كلمة روح.. نفس.. حياة، تستخدم لنفس المعنى في بعض اللغات القديمة).

إن الحياة هي ليست ذلك الهواء داخل رئتي البقرة، بل هي تلك القوة التي تحركهما، فالحياة ليست شيئًا ماديًا كالأعضاء، وإنما هي حياة الأعضاء والجسد، وهي ما تحيا به الكائنات.

إذاً فإن مثل هذا المصدر للحياة لا يمكنه أن يموت كما تموت الأجساد، عند خروج الروح، إذ ليس للروح روحًا أخرى تنتزع منها.

يمكننا أن نستنتج هنا، أن الروح هبة من مصدر أعلى، تبعث إلى الجسد عند منحه الحياة، وهذه حقيقة دينية وهي على النقيض من الفكرة الإغريقية القائلة بأن الروح شيئًا يورث.

كذلك توجد أدلة كثيرة أخرى بسيطة على وجود الروح واستحالة معرفتها من خلال القوانين المادية. إنه دليل يقوم على تجربة يومية من السحر الحقيقي، ففي كل مرة أقوم فيها بتحريك ذراعي عن قصد، أقوم بعمل سحري، لأنه إذا لم يكن هناك وعي وأمرنا الذراع كعضلات فقط، فإنه رغم وجود العضلات والجهاز العصبي وكذلك الدماغ، لا يمكننا تحريك الذراع إطلاقًا ولو كانت أخف من الهواء، ما لم يكن هنالك وعي يأمرهم بذلك.

عندما يموت الجسد لا تعود الذراع تتحرك ويرفض الجسد إطاعة القوانين المادية، ويصبح كالسيف الذي لا حراك له عندما يلقيه حامله.

الوعي ببساطة ليس جزءًا من الجهاز المادي ولا يمكن قياسه بالمقاييس المادية، كأن نقول: كم بوصة يبلغ طول وعيك؟.. ولذا لا يتحتم عليه الموت، عندما يموت الجسم المادي.. إن هذه حجة بسيطة جدًا وواضحة تجعلنا نتساءل كيف استطاع ذلك الإنسان البدائي أن يفهم هذه الحقيقة وعدم إدراك الماديون المعاصرون للفرق بين العقل والدماغ.

إن الحجة التقليدية للفلسفة السكولاستية [٦] على خلود الروح، مأخوذة من عمليتين لا تعودان إلى الجسم المادي، الأولى هي عملية استخلاص الأفكار كشيء لا يعود إلى التصور الداخلي ومنفصل عن الحواس الظاهرية، والثاني هو التفكر والإرادة العاقلة كشيء منفصل عن الرغبات الغريزية.

إن عقلي غير محدود ليعي صورًا مثل صور الأهرامات، بل هو قادر على فهم استخلاص مبادئ الكون، وإن خياراتي ليست محدودة ومقيدة برغباتي وغرائزي الجسدية، فأنا أصوم من أجل نفسي.

هنالك قدرة للروح تدلل على أنها ليست جزءًا من وظائف الجسد وبالتالي فهي ليست موضوعًا لقوانينه وفناءه. بإمكاني معرفة الحجر، فقط لأنني أكثر من مجرد حجر، فأنا أستطيع تذكر الماضي والحاضر الذي أعيشه، والماضي قد مات، لكنني الآن أستطيع أن أحب جسدي لأني أكثر من مجرد جسد، كالآلة التي تنتج الصور، إذ يجب أن تكون أكثر من تلك الصور التي تنتجها، كما أن العارف يجب أن يكون أكثر من تلك الأشياء التي يعرفها، إذاً فأنا أكثر من مجرد جسد.

كذلك بقيت لدينا حجة أخرى، نستنتجها من طبيعة الروح نفسها، فهي لا تملك أجزاء يمكن قياسها وعدها، كما هو الحال مع الجسم المادي. بإمكاننا أن نقطع الجسم إلى نصفين، لكننا لا نستطيع ذلك مع الروح، فهي غير ممتدة في الفضاء، ولا تستطيع أن تقص بوصة من روحك عندما تقص شعرك.

طالما أن الروح ليست لها أجزاء، لا يمكننا تحليلها وتفكيكها كما نفعل ذلك مع الجسد، لأنه بإمكاننا تفكيك كل شيء مركب.. الجزيئات إلى ذرات والخلايا إلى جزيئات والأعضاء إلى خلايا والجسد إلى أعضاء، لكن الروح ليست مركبة حتى نتمكن من تفكيكها. ربما تموت عندما تباد بشكل تام، لكن هذا سيكون مناقضًا للقانون الأساسي في الكون، من عدم إمكانية تلاشي أي شيء على الإطلاق، كما لا يمكن دفع أي شيء إلى الوجود من غير علة. طالما أننا لا نتمكن من تفكيك الروح إلى أجزاء ولا يمكنها أن تتلاشى، إذن فهي خالدة لا تموت.

سأورد حجتي الأخيرة على خلود الروح، التي أخذتها من أفلاطون والتي طرحت بطريقة رائعة في كتابه (الجمهورية)، حيث اقتبست النص الأصلي، ووضعت عليه الأرقام، فقط لمعرفة خطوات هذه الحجة:

١. الشر هو كل ما يفسد ويدمر.

٢. كل شيء يحمل معه شره.. كالرمد في العين، على سبيل المثال، والأمراض لكل الجسم والعفن في الذرة والخشب والصدأ في الحديد.

٣. بما أن الشر الطبيعي في الأشياء يحطمها أكثر من أي شيء آخر.

أ. فأنا لا أستطيع افتراض أن الخير يمكنه إفساد أي شيء.

ب. عندما يفسد الشر الموجود في أحد الأشياء، شيئًا آخر لا يفسده الشر الخاص به، هو بالتأكيد أمرًا غير منطقي.

٤. إذا وجدنا شيئًا ما في الوجود يحمل الشر الخاص به، لكنه لم يعمل على إفساده وتدميره، فعلينا أن نعرف أن هذا الشيء غير قابل للفساد.

٥. توجد في الروح بعض الأشياء التي تجعل منها شريرة... كالظلم، الإسراف، الجبن والجهل. والآن هل يمكن لأي من هذه الشرور أن يذيب الروح أو يدمرها؟

إذن، طالما أن الروح لا يمكن تدميرها بأي نوع من أنواع الشر، كالشر الموجود فيها أو الشر الدخيل عليها. عندها يتجلى لنا بوضوح أن الروح بالضرورة.. خالدة.

بعد أن ينتهي البروفسور بيتر كريفت من مناقشة مسألة وجود الروح وخلودها ينتقل إلى مناقشة التجارب الروحية قائلاً:

إن منشأ الحجة قائم من تلك التجارب التي يموت فيها المريض سريريًا ثم يعاد إلى الحياة، وبضمنهم أولئك الذين كانوا من المشككين، ثم اقتنعوا تمامًا بوجودهم خارج أجسادهم وبقائهم أحياء رغم الموت الجسدي الذي حصل لهم، حيث راقبوا من الخارج تلك الأجساد الميتة بصورة لا يخالطها الشك.

ليس هناك شيء أكثر خداعًا عندما تستيقظ في الصباح، وهناك احتمالية بأنك كنت تحلم وقد استيقظت، لكنك في الحقيقة كنت تحلم، ولكن في المرة التي تستيقظ فيها بالفعل، لا يعود هناك من شك، لكن للأسف فإن هذا الشعور الأكيد بالاستيقاظ يمكن تجربته فقط، لكن لا يمكن إثباته علنًا.

لدينا أيضًا تجارب أخرى أكثر شيوعًا وأكثر واقعية من تجارب الخروج من الجسد، فبعد أن يموت شخص حبيب وعادة ما يكون أحد الزوجين، يشعر الشخص الحي بحضوره وهو مقتنع تمامًا من أن الأمر لا يتعلق بالذاكرة والأمنيات ولا صورة قد صنعتها المخيلة.

مرة أخرى تعتبر هذه التجربة قوية ولكن ليست بدليل قاطع، نعم هي دليل فقط لذلك الذي يثق بها، إذن ما الذي يمكن أن يكون دليلاً مقنعًا؟

إن هذه التجارب تكون مقنعة إذا ما استعرضنا تاريخ المسيحية. ورأينا كيف أن المسيح قد أقام الكثير من الموتى وأعادهم إلى الحياة، فالمسيحيون يؤمنون بحياة ما بعد الموت، لا لأن هناك دليل يثبتها، بل لأنهم شهدوا ما قام به المسيح.

وهذه هي الإجابة على أسئلة المشككين القائلة: لماذا أنت مؤمن بوجود عالم ما بعد الموت؟

هل كنت هناك من قبل؟ وهل رجعت إلينا من ذلك العالم لتخبرنا عن وجوده؟

فيجيبهم المؤمنون: "كلا ولكن عندنا صديق رائع نؤمن به ونتبعه ليس فقط في هذه الحياة، بل في الموت الذي سيأتي".

مراجعة وتدقيق: أحمد حسن، السودان.

[١] لم أترجم المقال بأكمله وإنما أخذت منه بعض الأجزاء المتعلقة بالروح وخلودها بعد الموت. The case for life After death, Professor Peter kreeft.

[٢] تعرض السيد الطبائي، لمناقشة هذه المسألة بأسلوبه المنطقي المعروف في كتاب الميزان بقوله:(أقول أما قولهم: أن الأبحاث العلمية المبنية على الحس والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكمًا من الأحكام غير قابل للتعليل إلا بها، فهو حق لا ريب فيه، لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي أقيم البرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل موضوعها الذي هو المادة وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والأدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادية إنما لها أن تحكم في الأمور المادية، وأما ما وراء المادة والطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفيًا ولا إثباتًا، وغاية ما يشعر به البحث المادي هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان هو غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هو موضوعها ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمرًا مجردًا خارجًا عن سنخ المادة وحكم الطبيعة)، الميزان في تفسير القرآن، ج١، ص٣٦٧.

[٣] للشيخ الأكبر (ابن عربي)، نفس هذا التشبيه، فلقد قال في كتابه الفتوحات المكية ما نصه: "فإن الدنيا بالإنسان حامل، والهرم شهر ولادتها، فتقذفه من بطنها إلى البرزخ وهو المنزل الأول من منازل الآخرة، فيتربى فيه كما يتربى المولود إلى يوم البعث" الفتوحات، ج٤، ص٢٨٢. كما أشار إلى نفس المعنى في موضع آخر من الفتوحات بقوله: "فهذه الأرض البدنية لك على الحقيقة أرض الله الواسعة التي أمرك أن تعبده فيها إلى حين موتك، وهي القيامة الجزئية، وهو قوله تعالى (وفيها يعيدكم)، فإذا فهمت القيامة الجزئية بموت هذا الشخص المعين، علمت القيامة العامة لكل ميت كان عليها، فإن مدة البرزخ هي للنشأة الأخرى بمنزلة حمل المرأة للجنين في بطنها، ينشئه الله نشئًا بعد نشء فتختلف عليه أطوار النشء إلى أن يولد يوم القيامة، فلهذا قيل في الميت أنه إذا مات فقد قامت قيامته، أي ابتدأ فيه ظهور نشأة أخرى في البرزخ إلى يوم البعث من البرزخ، كما يبعث من الأرض إلى البطن من البطن إلى الأرض بالولادة" الفتوحات، ج٤، ص٢٥٠، مطبعة القاهرة.

[٤] تطرق الفيلسوف والروحاني الفرنسي (رامبه Rampa) في كتابه (أنت إلى الأبد You for Ever) إلى هذه المسألة، قائلاً: "إن الجسم هنا على الأرض أشبه بالمركبة التي توجه من مكان بعيد، فالسائق هو النفس، ولأن النفس لا يمكنها أن تنزل إلى الأرض لتكتسب الخبرة، فهي ترسل هذا الجسم الذي نحن هو إلى الأرض، فكل ما نختبره وكل ما نعمله أو نفكر فيه أو نسمعه ينتقل إلى أعلى لكي يخزن في ذاكرة النفس.. والنفس هي المدبرة وهي السائقة للجسم.. وما مخ الإنسان سوى محطة تحويل أو مجمع تلفونات، أو مصنع آلي كامل إذا شئت التشبيه، يأخذ الرسائل من النفس ويحول أوامرها إلى نشاط كيميائي أو فيزيائي، يعمل على حفظ المركبة حية أو يسبب عمليات عقلية خاصة، وهو يعيد تحويل الرسائل والانطباعات عن التجارب المكتسبة إلى النفس"

[٥] إن الدليل على صحة هذا الكلام هو قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)، فحدة الأبصار تستلزم حدة الإدراك وسعته وقوة التذكر، للترابط الموجود بين ما يشهده المحتضر وبين جميع أفعاله الدنيوية صغيرها وكبيرها، كما جاء في قوله تعالى: (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها).

إن مستوى وطبيعة الإدراك قائم على مستوى تجرد النفس، والذاكرة كنشاط فكري أرفع وأحدّ مستوى من غيرها من النشاطات الحسية.. "بل إن الانتقال الفكري أرفع قدرًا من التجسم وإن للإدراك المباشر مطلقًا لابد وأن تكون هناك قوى مجردة على تفاوت تجردها بحسب تفاوت إدراكاتها فالعقلية أشد ارتفاعًا وأعلى مقامًا والحسية سيما اللمسية منها أدون درجة وأشد هبوطًا من الجميع." كما قرر ذلك الشيخ الآملي في سرح العيون، ص٤١٢. وقد أك

دت تجارب التنويم المغناطيسي هذه الحقيقة، فكلما توغل النائم في السبات المغناطيسي اشتدت فيه قوة الذاكرة واتسعت، إلى حد أن كل درجة من السبات لها ذاكرة خاصة تشمل ما قبلها ولا تتصل بما بعدها، وبعبارة أخرى أن النفس ليتسع نطاق ذاكرتها على قدر توسع حريتها وضعف الوثق التي تربطها بالجسد، فتعود الذاكرة إلى الإنسان بشكلها التام بعد تحرر النفس من وثق الجسد بصورة تامة، أي بعد الموت.



مراجعة وتدقيق: أحمد حسن، السودان.

[٦] مدرسة فلسفية مثالية مرتبطة بالدين المسيحي الكاثوليكي.